-1-
كانا يقضيان اليوم بأكمله معاً, لا يفرقهما سوى النوم.. على الرغم من كونه فراق جسمانياً.. فأرواحهم كانت تتلاقى دوماً فى احلامهما...
كانا يتحدثان.. ويتحدثان.. ويتحدثان.. لم يملا يوماً من هذا الحديث حتى لو كان مضمومنه مكرراً او مصدر ملل للغير..
كانت تعشقه وكان يعشقها اكثر مما تعشقه.. تعشق ابتسامته.. يعشق طفولتها الممزوجة بالكثير من العقل.. كان يكبرها عمراً ولكنه كان يتعلم منها الكثير من حكم الحياة.. كانت دائما مصدر الهامه.
كان يمسك بيداها الصغيرتان التى تكاد ترى بين ايديه الرجولية الحنونة.. كانا يمثلان الشئ ونقيضه, العقل والطفولة.. القسوة والحنان.. الكبر والصغر. لديهم الكثير من الأشياء المشتركة.. كانت عندما يتلاقا تشعر برعشة تسرى فى جسدها ويكاد ان يغشى عليها من احساسها بالدوار لكونه فقط ماثل أمامها.. فقط رؤيته كانت تفعل بها هذا..سريعاً ما تمسك بيده حتى تستجمع قواها وتنظر الى عينيه وتغوص فى بحورهما.. فكانوا دائما مصدر قوة والهام لها.. كانت البسمة لا تفارق شفاهما عندما يتحدثان حتى لو كان الحديث بينهم محتدم ويحتوى على خلاف واضح.. كانت تلك البسمة لا تفارقهما حتى لو كانا متواجدان فى مكان واحد.. ولكــن.. وآآه دوماً من كلمة لكــن..
-2-
تمكنت المشاكل والقلق من الدخول الى تلك العلاقة السحرية المليئة بالاسرار التى لا يعلمها غيرهما.. واتفقا بمنتهى الألم على الفراق.. هو من أراد ذلك ودائما كان يوقع اللوم عليها لأنها السبب فى تقليل درجة حبه لها يوم تلو الآخر.. كانت تتصرف تصرفات لا يعلم مصدرها..
كان يكره عندما لا يسمع دقات قلبها مثلما كانت تسمع دقات قلبه عند تواجدهما بالقرب من بعضهما.. كان يتهمها بعدم حبها له.. ولكنه لم يسل يوماً لماذا لم يعد يسمع تلك الدقات؟!
كان الالم يعتصر " قلبهــا الضعيــف " كلما نظر اليها بعين الإتهام.. كيف لا يشعر بحبها له؟ وكيف يقيمه على تلك الدقات التافهة التى حقاً كانت تسمعها من داخلها وتتعجب كل العجب بعدم سماعه لها.. وافترقــا..
-3-
مرت بهما أوقات عصبية.. ربما كانت أقل عليه بكثير, لأنه كان يرى دوما انها لا تستحقه.. ولكنها كانت من أصعب أيام حياتها.. عاشت كثيراً فى فترات اكتئاب لم يستطع أحد ابداً مساعدتها فى الخروج من تلك الدائرة المغلقة.. دائرة الحزن والألم والبكاء.. كانت كثيراً ما تنهار بسبب إهمالها الشديد لصحتها.. ولكثرة العمل التى كانت تحاول ان توهم نفسها بإنه شئ حقاً يشغلها عن التفكير فيه.. فكانت نادراً ما تختفى صورته من خيالها.. كانت ترى وجهه فى أى شخص يشبهه حتى لو بالإسم.. كانت تبحث عنه فى أى مكان من الممكن تواجده فيه.. وعندما ترحل الى سباتها تتذكر انها لم تراه اليوم فتجهش باكية حتى النوم.. لا احد يشعر بكل هذا الالم الذى كان يستوطن داخل قلبها الصغير الضعيف.. يتمكن منه ليعتصره كل ليلة.. كل ساعة.. بل ربما كل لحظة تقضيها بعيداً عنه..
تترقب تصرفاته وأفعاله من بعيد. كانت تخشى التقرب منه لتجرحه او لتجرح نفسها.. فكان كثيرا ما يبالغ فى قسوته فى معاملته لها قبيل فراقهمها.. ربما كان يمهد لتلك اللحظة.. لا تدرى.. ولكنه رحــل فى جميع الاحوال.
-4-
فى يوم مثل جميع الأيام التى مرت بها خلال الفترة الماضية.. لا تتذكر بالضبط كونها أيام.. اسابيع.. ربما سنة او عدة سنوات, فكانت حقيقة فقدت الإحساس بالوقت خلال تلك المدة.. كانت تعمل بجد فى محاولة من محاولات كثيرة فى نسيانه, وفجأة سقطت مغشياً عليها وهى تتحدث الى إحدى صديقاتها.. تم نقلها فوراً الى المستشفى, ربما حدث لها بعض من الخدوش والجروح السطحية اثر اصطدامها بالأرض ولكن هذا لا يهم.. فعندما بحث الطبيب فى سجلها المرضى طلب منها بعض من الفحوصات التى أكدت وجود عيب خلقى فى قلبها.. الذى حقاً كان ضعيف وصغير, لم تندهش من كلامه فكانت تعلم بوجود هذا العيب من قبل, ولكنها كانت قد عاهدت نفسها أمام الله ألا تخبر والديها أو أحد من اشقائها او اصدقائها او المقربين منها.. او حبيبها نفسه, حتى لا تكون مصدر قلق وخوف لأى منهم.
ربما كان هذا هو مصدر تصرفاتها الغريبة معه.. ربما هى التى كانت تمهد له فراقهما.. فهى تعلم ان أيامها فى الأرض معدودة وترى ان حين يقسو عليها ويكرهها مع الوقت أفضل بكثير من ان تموت بين يديه وتكون آخر لحظة تجمعهما يكون ثالثهما ملك الموت.
هو علم بمرضها من أحد الأصدقاء وأخيرا ذهب لرؤيتها...
-5-
مرت دقائق وهو واقف صامتاً يشاهدها .. مصفرة الوجه.. ازرق هو ما حول عينها.. كانت تربط شعرها الذى كان تتباهى به أمام الجميع, كان ما يظهر من جسدها معدات طبية تساعدها على التنفس واستقرار ضغط دمها.. معدات كثيرة لم ير مثلها سوى فى الكثير من المسلسلات التلفزيونية والأفلام, على قدر من عدم فهمه لكل جهاز من تلك الاجهزة وما عمله بالضبط.. كان مستوعب بأن حالتها حقاً خطرة لا تحتمل الكثير.. كان مصدوماً فلم يرها من قبل فى مثل هذه الحالة ابداً.. كانت عيناها البنتين الضيقتين تختفى خلف رموشها الكثيفة.. كان شعرها البنى الكثيف القصير يتطاير مع كل نسمة مثل الوردة المتفتحة فى حقل زهور فى فصل الربيع.. كيف تحول حالها الى الخريف فجأة؟
خرج من صمته بعد عدة دقائق واقترب منها.. قالت له بألم شديد كانت تحاول ان تخفيه: لماذا أتيت بعد كل تلك السنوات؟!
- مرتعشاً قال : كيف أعرف انك فى تلك الحالة ولا آتى لزيارتك؟
- تعلقنى بحبك مرة أخرى وتختفى من حياتى.. انت الآن تنظر إلى بعين الشفقة ليس أكثر, فأنا من حطمتك بتصرفاتها قبل الفراق.. انا من تحملت الامل وانا أقصد ان أجرح مشاعرك..وأنت لا تعلم بمرضى.. فكنت أتألم من ثلاث امور.. اولها جرحك و فراقك وأخيرا مرضى.. وأجهشت فى البكاء وبدأت فى الانهيار مرة اخرى.. أمسك بيداها التى لا تزال صغيرة بالنسبة ليده.. وهدئ من روعها واستطاع ذللك بسهولة فإنه كان دوماً الشخص الوحيد الذى يطمئنها بنظرة واحدة.. فقط نظرة واحدة تكفى لتكف عن أى ألم يلحق بها.
قال لها : لقد أتت لى فكرة الآن وارجو ان توافقينى.
- ما هى؟
- تتزوجينى؟؟!!
-نعم؟! وانا بتلك الحالة؟ قالتها بسعادة كانت حقاً تغمرها من أعماقها حتى آخر طبقة جلدها السطحية.
- نعم الآن.. فلا أريد أن أخسر لحظة من غمرى بدون وجودك فيها.
- بعد كل تلك السنوات؟
-نعم.. لا مزيد من تلك السنوات, فنحن لا نحتاج الى المزيد منها فكانت كلها ألم وبؤس وشقاء على كلانا.. سانزل لأشترى خاتم الزواج الآن ويمكننا ان نجهز لحفلة كبيرة لإعلان خطوبتنا بعد خروجك بالسلامة.
- لا استطيع الانتظار فاذهب حالاً.
ذهب ليأتى بخاتم الزواج ولم يحفر اسمائهم على اى من خاتمها او دبلته.. فهو يؤمن بان الحب لا يتأثر بتلك التفاهات.. فكلها رموز والحب شئ معنوى لا نستطيع ان نقيسه بأى شئ مادى.
-6-
مبتسماً دخل غرفتها حاملاُ علبة خاتم الزواج واقترب منها وأمسك يداها وقال لها:- لقد رتبت كل شئ مع عائلتك وعائلتى, وكل شئ على ما يرام.. اطمئنى سنكون معاً للأبد لا يفرقنا إلا الموت..
نظرت لإاليه وقالت نعم.. سوف يفرقنا الموت وضغطت على يده بكامل قوتها وقالت لا تنسانى أبداً.. أحبــك, ثم أغلقت عينيها للأبد.
ظل ممسكاً بخاتم الزواج ينظر إليه بحزن وهو لا يستطيع سوى تذكر لومه لها عندما كان لا يسمع دقات قلبها.. فكان ضعفياً وصغيراً لدرجة عدم سماع أحد غيرها لدقاته..
Esraa Gad
10.4.2011
No comments:
Post a Comment